Friday, March 11, 2016

منام الشيخ المفيد

عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد النعمان ـ رضى الله عنه ـ قال: رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها أناس كثيرة، فقلت: ما هذا؟
فقالوا: هذه حلقة فيها رجل يعظ.
قلت: ومن هو؟
قالوا: عمر بن الخطاب، ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشيء لم أحصله فقطعت عليه الكلام. وقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر عتيق بن ابي قحافة من قول الله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) (2).
فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر في هذه الآية على ستة مواضع:
الاول: أن الله تعالى ذكر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وذكر أبابكر وجعله ثانيه، فقال: (ثاني اثنين اذ هما في الغار).
والثاني: وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال: (اذ هما في الغار).
والثالث: أنه اضافه إليه بذكر الصحبة فجمع بينهما بما تقتضي الرتبة فقال: (اذ يقول لصاحبه).
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ورفقه به لموضعه عنده فقال: (لا تحزن).
والخامس: أخبر أن الله معهما على حد سواء، ناصراً لهما ودافعاً عنهما فقال: (ان الله معنا).
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم تفارقه سكينته قط، قال: (فأنزل الله سكينته عليه) (3).
فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، حيث لا يمكنك ولا غيرك الطعن فيها.
فقلت له: خبرتك بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه وإني بعون الله سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
اما قولك: إن الله تعالى ذكر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وجعل ابا بكر معه ثانيه، فهو إخبار عن العدد، ولعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل ؟! فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا، أو مؤمنا وكافراً، اثنان فما أرى لك في ذلك العد طائلاً تعتمده.
وأما قولك: إنه وصفهما بالاجتماع في المكان، فإنه كالأول لان المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار، وأيضاً: فإن مسجد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أشرف من الغار، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك يقول الله عز وجل: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين)(4) ، وأيضا: فإن سفينة نوح ـ عليه السلام ـ قد جمعت النبي، والشيطان، والبهيمة، والكلب، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك: إنه أضافه إليه بذكر الصحبة، فإنه أضعف من الفضلين الاولين لان اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً) (5) وأيضا: فإن اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم، فقال الله عز وجل: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)(6) أنه قد سموا الحمار صاحبا فقال الشاعر(7) :
إن الحمار مع الحمير مطية ... فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا: قد سمّوا الجماد مع الحي صاحبا، فقالوا ذلك في السيف وقالوا شعرا:
زرت هنداً وكان غير اختيان ... ومعي صاحب كتوم اللسان(8)
يعني: السيف، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين العاقل والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فأي حجة لصاحبك فيه ؟!
وأما قولك: إنه قال: (لا تحزن) فإنه وبال عليه ومنقصة له، ودليل على خطئه لان قوله: (لا تحزن)، نهي وصورة النهي قول القائل: لا تفعل فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فالنبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كانت معصية فقد نهاه النبي عنها، وقد شهدت الاية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
واما قولك: إنه قال: (ان الله معنا) فإن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد أخبر أن الله معه، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (9) وقد قيل أيضا إن أبا بكر، قال: يا رسول الله حزني على علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ما كان منه، فقال له النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ: (لا تحزن فإن الله معنا) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب ـ عليه السلام.
وأما قولك: إن السكينة نزلت على أبي بكر، فإنه ترك للظاهر، لان الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيّده الله بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) (10) . فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا اخراج للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من النبوة على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيراً، لان الله تعالى انزل السكينة على النبي في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها، فقال في أحد الموضعين:
(فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى) (11) وقال في الموضع الاخر: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها)(12) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة، فقال: (فانزل الله سكينته عليه) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الايمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي(13) .
(1) تجد ترجمته في: اوائل المقالات في المذاهب والمختارات للشيخ المفيد المقدمة ص16، سير أعلام النبلاء ج17 ص344 رقم: 213. تاريخ بغداد ج3 ص231، الذريعة ج2 ص209، ميزان الاعتدال ج4 ص30، لسان الميزان ج5 ص 368، رجال النجاشي ص283، الفهرست للشيخ الطوسي ص157.
(2) سورة التوبة: الاية 40.
(3) سورة التوبة: الاية 27.
(4) سورة المعارج: الاية 37.
(5) سورة الكهف: الاية 35.
(6) سورة ابراهيم: الاية 4.
(7) هو اميه: بن أبي الصلت، راجع: كنز الفوائد ج2 ص50.
(8) قد ورد في كنز الفوائد ج2 ص50 للكراجكي هكذا:
زرت هنداً وذاك بعد اجتناب ... ومعي صاحب كتوم اللسان
(9) سورة الحجر: الاية 9.
(10) سورة التوبة: الاية 41.
(11) سورة الفتح: الاية 26.
(12) سورة التوبة: الاية 27.

تتمة...