Monday, November 8, 2010

لبيك اللهم لبيك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحج

قال الله تعالى : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) صدق الله العلي العظيم.

قد تصاب بالدهشة حينما تصل الديار المقدسة، أرض الحجاز، وتستمر بذلك وتعتريك رعدة كلما أوغلت قدماً باتجاه المشاعر المقدسة، والأماكن الطيبة.
تدهشك تلك الجموع الغفيرة التي تتحرك نحو قبلتها، سود وبيض، رجال ونساء من كل الأعمار، حتى انك تجد الشيخ الفاني والعجوز المتهدمة يتشحون البياض قد لبوا النداء.
وتجد أيضاً تجاراً كبار، أغنياء وفقراء ومتواضعين، من كل الطبقات الاجتماعية والكل يهفو بفؤاده نحو البيت العتيق.
لا يوجد في الدنيا عبادة مثلها أبدا حيث يتلاقي البشر هناك أمواجاً متلاطمة من كل حدب صوب ومن كل فج عميق يلبون النداء ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ).
لا شئ يحدوهم بهم ويسيرهم ذلك الطريق الوعر المشاق، وبذل المال، إلا رغبة في تحصيل الأجر والثواب والسير على خطى الانبياء والاوصياء.

ممكن أن ترائي في صلاتك وصومك، وممكن أن تدعي الطهر والقداسة في وطنك أو حيث أنت، أما أن تقطع المسافات وتبذل المال لادعاء ذلك، لا اعتقد.
أناس غلبهم الشوق، وقض مضاجعهم الحنين إلى بارئ النسمات، فأتت تلك الجموع طائعة مختارة، تركت ورائها الأهل والمال والولد والدنيا بزخرفها وزينتها، اتشحت الأكفان واتجهت إلى الرحمن.
ليس من أمرها شئ سوى التسليم لله عز وجل. منقادة انقياد العبيد إلى مولها، علَّها تحظى بالتفاتة منه لفكاكها وعتقها من هول النيران ومقطعات الأبدان ومغيرات الألوان.
ويدهشك الجمع بعد، بألوانه وألسنته المتعددة، ومختلف جنسياته، وتعدد طبقاته. إنها تلهج بلسان واحد: هو الله لا إله إلا هو.
لله درهم ما أعظمهم من وفد، وكيف حققوا الاستطاعة، وكم انتظروا، والكم من العذاب الذي تحملوه، وكم مرة ومرة في سنوات سابقة رجعوا خائبين تعتصرهم الحرقة والغصة لأنهم لم يكونوا في عداد وفد الله.

وها هم هنا بعد طول عناء، حتى المترف منهم - المسافر على أرقى الدرجات ولم يأتي لا راجالاً ولا على ضامر، بل جاء على فاره الراحلة ووثير المقعد - يندس بين الجموع بثوبي إحرامه فلا ترتفع فوقه غمامة لتقيه لفحة الهجير ولا تفرد له المساحات أو تختزل لأجله المسافات فالكل سواء. ( إن اكرمكم عند الله أتقاكم ).
ويتحرك الجمع على تناسق، ويبدأ المؤتمر العظيم، المصهر، والمطهر.
فالتطهر اولا من الذنوب، وخلع ثياب الرياء والعنجهية، فتحرم لله الجوارح والنفس من دنس المعاصي والذنوب لتؤكد على أنك نعم العبد المطيع للرب بترك ما حرم،
فالنفس تنقاد لصاحبها اما للخير أو للشر، فأما الخير مقدور عليه وانه ألذ وأطيب وأطهر وأهنأ وأخف تبعة، وانك أيضا بعد المعصية يمكن ان تتوب ويمكنك عدم المعصية أصلا.
فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
إذ لا يأس مع الله الغفور الرحيم.
ثم التطواف بالبيت العتيق كالذليل، وتتمسح بالاركان، علَّ نظرة من العلياء ترمقك.
ثم الصلاة هناك،ليس في أي مكان، فهي أعظم صلة للمخلوق بخالقه، علّه يرضى ويصفح عن كثير الجرم بشفاعة أبينا إبراهيم عليه السلام الأوآه الحليم هناك خلف مصلاه وهو الذي سمانا من قبل المسلمين.
وتيمم وجهك شطر المسعى ظمآن خائف تهرول تارة وتسير أخرى لا تلتف خلفك خوف لحوق الذنوب ورجاء المغفرة،
وقلبك يلهج .... أن يارب إرضى وأنلني شربة بعدها لا أعطش ولا اشقى، كما سقيت من قبل جدتنا هاجر ووليدها الاتقى، ويسرت له في تلك المنازل غير ذات الزرع والارض القفر فجعلت أفئدة الناس تهوي إليه ورزقت أهله من كل الثمرات.
فانجح يارب عملي واقبل سعيي وتطوافي، ووقفتي بين يديك معترفاً بذنبي خاضعاً ذليلاً متجرداً من الدنيا كخروجي من قبري عرياناً وانت تستر علي التبعات من عملي.
ولسان حالك يقول:
ها أنا يارب أقف بين يديك في عرفات معترفاً نادماً منكسراً ذليلاً، لا أقف بأمر من أحد هنا ولا لإجل أحد، ولا لمنفعة دنيا، إنما من أجلك، يشخص إليك بصري، ويتعلق بك فؤادي، هذا يارب المكان الوحيد الذي أتحلل فيه من متعلقات الدنيا وزينتها، وفتنتها،
فقد تركت المال والولد والاهل خلفي، لا أقصد إلاك ولا أحتاج سواك ، فلا أحد أنفع لي منك يارب.
( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ).
وها أنا يا رب في منى أقذف شيطان الهوى، والتفاخر، والتكبر، في نفسي بالحصى مراراً وتكراراً وكل يوم إلى يوم الدين،
أعاهدك ربي بأن أرمي شيطان نفسي وكل الشياطين والمستكبرين أينما حللت بالحصى هم أعدائي أبدا،
فحربك حربي وسلمك سلمي.
وها أنا ذا أحلق رأسي تطهراً من الادناس وأحفظ بذلك نفسي من تبعة الناس، فلا يسجد إلا لك ولا يرتفع عزا الا بك، وكي لا يكون منكوسا يوم القيامة ذليلا.
وأنحر إذ أنحر حنجرة الطمع والجشع وحب الذات والانانية - وإن كانت مما أُحب وإليها أسعى - فتأسيت ربي بإِبراهيم خليلك عليه السلام يوم صدق الرؤيا.
وها أنا ربي أعود أدراجي إلى بيتك طائفاً مصلياً وساعياً حتى ترضى.
على ذلك أحيا وأموت وأُبعث تارة أخرى.



No comments:

Post a Comment