Tuesday, May 15, 2012

وصية أمير المؤمنين لولده الحسن عليهما السلام




من وصيّة الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام للحسن بن على عليهما السلام، كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفين.

من الوالد الفان، المقرّ للزّمان، المدبر العمر، المستسلم للدّهر، الذّامّ للدّنيا، السّاكن مساكن الموتى، والظّاعن عنها غدا، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السّالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيّام، ورميّة المصائب، وعبد الدّنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشّهوات، وخليفة الأموات.

أمّا بعد، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي، وجموح الدّهر عليّ، وإقبال الآخرة إليّ، ما يزعني عن ذكر من سواي، والإهتمام بما ورائي غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي، فصدفني رأيي، وصرفني عن هوائي، وصرّح لى محض أمري، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت.

فانّي أوصيك بتقوى اللّه أي بنيّ ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به ؟ ؟

أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزّهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدّنيا، وحذّره صولة الدهر، وفحش تقلّب اللّيالى والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين، وسر فى ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليلٍ قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك،  دع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلّف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد فى اللّه حقّ جهاده، ولا تأخذك فى اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحقّ حيث كان، وتفقّه فى الدّين، وعوّد نفسك التّصبّر على المكروه، ونعم الخلق التّصبّر، وألجىء نفسك فى الأمور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص فى المسألة لربّك فإنّ بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة وتفهّم وصيّتي، ولا تذهبنّ عنها صفحا، فإنّ خير القول ما نفع، واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه.

أي بنيّ، إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّاً، ورأيتنى أزداد وهناً، بادرت بوصيّتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، أو فتن الدّنيا، فتكون كالصّعب النّفور، وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية: ما ألقى فيها من شيء قبلته، فبادرتُك بالأدب قبل أن يقسو قبلك ويشتغل لبّك، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطّلب، وعوفيت من علاج التّجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه.

أي بنيّ، إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله وتوخّيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر، ومقتبل الدّهر ذو نيّة سليمة ونفس صافية، وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه وتأويله، وشرائع الاسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذى التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة، ورجوت أن يوفّقك اللّه لرشدك، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيّتي هذه.

واعلم، يا بنيّ، أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي، تقوى اللّه والإقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك والصّالحون من أهل بيتك، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكّروا كما أنت مفكّر، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والامساك عمّا لم يكلّفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم، لا بتورّط الشّبهات، وغلوّ الخصومات وابدأ قبل نظرك فى ذلك بالاستعانة بإلهك، والرّغبة إليه فى توفيقك، وترك كلّ شائبة أولجتك فى شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتّمّ رأيك فاجتمع، وكان همّك فىي ذلك همّاً واحداً، فانظر فيما فسّرت لك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء، وتتورّط الظّلماء، وليس طالب الدّين من خبط أو خلط والامساك عن ذلك أمثل. فتفهّم، يا بنيّ، وصيّتي، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة، وأنّ الخالق هو المميت، وأنّ المفني هو المعيد، وأنّ المبتلي هو المعافي، وأنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النّعماء، والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء ممّا لا نعلم. فإن أشكل عليك شىء من ذلك فاحمله على جهالتك به، فإنّك أوّل ما خلقت خلقت جاهلا ثمّ علّمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضلّ فيه بصرك، ثمّ تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالّذى خلقك ورزقك وسوّاك، وليكن له تعبّدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.

واعلم، يا بنيّ، أنّ أحداً لم ينبئ عن اللّه كما أنبأ عنه الرّسول، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فارض به رائداً، وإلى النّجاة قائداً، فإنّي لم آلك نصيحة، وإنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم، يا بنيّ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه فى ملكه أحد، ولا يزول أبداً، و لم يزل، أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغى لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلّة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربّه، في طلب طاعته، والرّهبة من عقوبته، والشّفقة من سخطه، فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن، ولم ينهك إلاّ عن قبيح.

No comments:

Post a Comment