Thursday, April 1, 2010

آية العظمى السيد السيستاني دام ظله

دراسة نشرت ضمن كتاب الامام السيستاني

بسم الله الرحمن الرحيم


قال الله سبحانه وتعالى

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {التوبة/122}
وقد ورد عن الامام الحسن أبي محمّد العسكريّ(ع) انه قال : «مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يُقَلِّدوه»

ان لهذين النصين الشريفين القرآني والحديث كلمة الفصل في وضع الحجر الاساس لما عرف فيما بعد:
مرجع، مرجعية، مجتهد، مقلد، حوزة، مؤسسة دينية. وغيرها وما انبثق عنها من تفرعات.
بيد اننا لسنا بصدد البحث فيها جميعا ولكن سنأتي بالحديث عنها وتوضيح بعض جنباتها في سياق البحث العام وتتضح بشكل او باخر.
المرجعية والمرجع وهما محور البحث، وللانارة على الموضوع لا بد من سرد بعض المقدمات والاستهلال بها.
1
نشأة المرجعية
الكلام في المرجع يستدعي التكلم عن المرجعية بحد ذاتها وكيف بدأت واستمرت وعن الظروف التي عاصرتها طوال حركتها وتقلباتها عبر الزمن.
يمتاز الشيعة الجعفرية الاثني عشرية عن جميع مذاهب أهل الارض في طريقة انتخاب زعاماتهم الدينية، فانهم غير تقليدين في هذه المسألة ولهم الفرادة فيها، إذ أن مجرى العادات لدى أهل الملل والنحل ومذهب الاديان في الارض قاطبة، أن تقوم منهم مجموعة لها صلاحيتها بالاجتماع والانتخاب من بينها، أو من خارجها من يكون رأساً لهرمها الديني التراتبي، وعليه سيطمح شخص أو اشخاص، يسعون لها ويعملون من أجلها مهيئين الاسباب العامة قبل الخاصة المتعلقه بهم شخصيا، من شروط تأهل وتمكين، وبالتالي قد يتغاضى عن شروط، وقد يحصل لمصالح ما بان يتعاطف مع شخص مجموعة من أهل الحل والربط، ولمصالح آنية وشخصية يقدم فرد على فرد آخر، وينتج هذا في كثير من الاحيان أن يأتي من ليس أهلا لها، ويكون سبب ضعف بشكل عام وقلة ثقة، هذا مايحدث في كثير من الأماكن قديماً وحديثاً باختصار.
غير أن ما يصار إليه لدى الشيعة الامامية الاثني عشرية يختلف عن ذلك إختلافاً جوهرياً، فلا مرشحين بالمعنى الحرفي - بل مؤهلين- ولا لجان فاحصة او ناخبة بالدقة، بل ان من لديه الاهلية يشرق كالشمس الساطعة في رابعة النهار ويشار اليه بالبنان، وهو من ينتخب نفسه بنفسه، إن جاز التعبير. وهاكم الشرح.
فإن من لديه من ملكات وقدرات وطاقات ومخزون علمي وقيادي، هي من تشهد له وتحكي عنه وتقدمه على من سواه، وتؤهله ليكون في موقع الصدارة. وهذا يتطلب لعمري سلوك درب طويل وشاق يمر به طالب الحوزة الى ان يصير مرجعا. وليس بالضرورة ان تكون نهاية المطاف لكل طالب.بل انها تحتاج الى مؤهلات شخصية، لا يملكها الاخرون ، فرادة الشخص، عمله وجهده الفردي يدفع به ليكون من اؤلئك الشموس الطالعة.
2
جهد فرد ومسيرة عمر منذ نعومة الاظافر الى يوم يلقى ربه، تربية على البذل والعطاء، من ساعة النفر في سبيل التفقه في الدين، والاستغراق في هدفه الواضح الا وهو العلم والمعرفة والتفقه ولا شئ عداها،. والذهاب فيها الى منتهى الكمال، يؤثرهم على نفسه قاليا الدنيا وزينتها تاركا لها ورائه وزاهدا فيه بتفرغه وانقطاعه عما يشغله عن الهدف الاسمى باستثناء ما يساهم بتعزيز الطاقات ويسهم فيها، مكتفيا بالقليل لنفسه.
العلم والمعرفة همه لا يشبع منهما ابدا، نهما يلهث ورائهما ليل نهار، فيصقلان شخصه، فتصان من خلالهما نفسه، ويحتاط لدينة غاية الاحتياط ومنتهى الورع، مخالفا الهوى، اطاعة للمولى عز وجل، واتباعا لسنة نبيه، وهدي إمامه الاعظم علي بن ابي طالب، وأبنائه المعصومين سلام الله عليهم أجمعين.
قله اذا من هي فيهم هذه الخاصائص المؤهلة، اذ انها حالة جهاد مستمر، فمن كانت هذه حاله تدين له الدنيا وتاتيه طائعة منقادة تجثو تحت نعليه.
الاجتهاد مبذول للعاملين وجم كثير من العلماء يبلغ هذه المرتبة بل ويتخطونها، فمن يبلغ فيها ذروة يطرح نفسه مرجع تقليد، انما قلة هم من تصير لهم الزعامة الدينية المطلقه، وكأن هناك عرفا غير منصوص على ان يتاخر الكبار من المراجع خطوة لواحد منهم لتكون له الصدارة.
وكان هناك ممن بلغ غاية في الكمال في هذا المضمار فتاخروا لقانعتهم ان هناك من يسد المسد ويملء الفراغ، وهي منقبة اخرى تضاف اليهم، اذ ليس هدفهم من العلم والتفقه الوصول الى زعامة المؤمنين ورياسة الحوزة ، والتربع في سدتها.
3
ملامح شخصية المرجع

مما لا شك فيه ان ما اسلفناه هي عوامل وشروط عامة وبعض التفاصيل الى حد ما، الا ان هناك صفات وعوامل تجعل مما سنسميه هيئة ناخبة تأخذ بها محولة انظارها الى شخصية دينية معينة دون سواها، ونرى في أحيان كثيرة ان من صار في موقع المرجعية كان قد اشير اليه من قبل، وربما منذ عقود من الزمن، فرضها بنفسه كما مر، وهذا ما ستوضحه الاسباب التالية.
الاول: الشهرة المستفيضة، فمن اشتهرت عدالته من بين اهل العلم وغيرهم، بحكاية اثاره عن نفسه، علما ومسلكا.
الامر الثاني : شياع الثناء عليه، بما لديه ويمتلكه ويختزنه، وظهر وشاع عنه.
الامر الثالث : الشهرة والثقة بضبطهم وورعهم من القرائن الكثيرة المتعاضدة الموجبة للتميز.
الامر الرابع : من صيرورته مرجعا للعلماء والفقهاء لياخذوا عنه قبل العامة.
هذه الامور والاسباب وغيرها مجتمعة كانت ولا تزال العامل الاول في بلورة الشخص المؤمل ان يكون في موقع الزعامة للحوزة الدينية وتنتهي اليه الرئاسة، وهي كافية في عدالته ولا يحتاج معها الى معدل.
وهذا ديدين المراجع والزعماء الدينين منذ الشيح محمد بن يعقوب الكليني الى يومنا هذا.
وقاعدة اخرى تحكم وبقوة ان لا تعطى الزعامة لطالبها.
4
المؤسسة الحوزة

تعتبر المؤسسة الدينية الشيعية الجعفرية وعلى راسها المراجع العظام الذين يشغلون حيزا زمنيا في مسيرتها ويشكلون لها قادة طبيعين لمدة زمنية معينة وهي مدة مرجعيتهم وزعامتهم الدينية، هي المنبع الحقيقي والاساسي الذي ينهل منه اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام وقود استمرارهم.
والمرجعية الدينية الشيعية وبشكلها الحالي، الذي ابتدأ منذ الشيخ الكليني تقريبا بعيد الغيبة الصغرى، لهي فريدة في نوعها، وهي اقرب الى ما كان عليه الحال في زمن النبي صلوات الله علية وزمن الائمة عليهم السلام.
ان طلاب بحث الخارج ما يصطلح تسميته على الدروس والمحاضرات العليا التي يلقيها المجتهد المطلق على تلامذته المؤهلين لتلقي هذه الدروس، غالبا هم نواة ادارة شؤون المرجعية. والمساعدين الخلص للمرجع، ككبار الموظفين في ادارات الدول، فيما بعد ، ومنهم من يصبحون وكلاء عنه في بلدانهم وامصارهم التي يذهبون اليها في نهاية مطاف العلم ليكونوا اذرعا للمرجعية، ومنهم من يستمر معه بجنبه وتصير لهم الشهرة في العلم والتدريس ليكون مشروع مرجع في يوم من الايام، وهكذا.
5
انطلاق المؤسسة
قد لا يكون من الصعب تحديد البداية لانطلاقة المؤسسة بل قد يستغرب بعض الشئ وقد يرمى القائل بالغلو والمبالغة في القول حيث ترجع جذورها وبداياتها جغرافيا الى المدينة المنورة وزمنيا الى صاحب الدعوة النبي الاعظم صلوات الله عليه اذ انه كان يلقي علومه وكان من يتلقاها ويعيها ومن ثم يحدث بها ويعرف هؤلاء من بعد بالصحابة او المحدثين والتابعين ومن تلك التسيمات، منهم على سبيل المثال وهم التلامذة النجباء الاول سلمان وابي ذر وعبدالله بن عباس حبر الامة وغيرهم من كبار الصحابة.
واستمرت في علي بن ابي طالب عليه السلام فكان من اهم تلامذته كميل بن زياد ومالك الاشتر وغيرهما. ومن ثم تواصلت في ولده الى ان صار لها من الشأن والمكانة وسعة الانتشار والتطور والاقبال عليها.
اخذت شكل الجامعة العلمية الحديثة في زمن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام فامها طلاب العلم والمعرفة من ارجاء العالم الاسلامي انذاك، حتى ربا عدد طلابها على الاربعة الاف طالب، تتلمذ فيها على يدي ائمتها مباشرة او تلامذتهم بعض ائمة واصحاب ما يعرف بالمذاهب الاسلامية الاربعة.
6
كان المسجد النبوي الشريف هو المقر الاول لتلك الجامعة في زمن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام مع بيتيهما، فما من قاصد لمسجد رسول الله في تلك الاونة الا وعرَّج ليتزود من علمهما.
وصارت سنة ان تغدو المساجد هي الاماكن المثلى للدرس والتدريس.
غير ان القادة السياسين آنذاك كانوا السبب في هجران المدينة والتنقل بين الاسقاع وصولا الى الغري في النجف الاشرف وقم المقدسة ومشهد في ايران مرورا ببغداد والحلة والكوفة وغيرها من الاماكن التي تقلبت فيها الحوزة العلمية.
حيث سعى الظلام عبر التاريخ لمحاربة هذه الحركة العلمية السلمية بشتى الوسائل والسبل، لشعور بالخوف لدى هذه الطغمة من ان الاقبال الشديد على العلم سوف يسحب البساط من تحت ارجلهم، لان العلم نور والنور يزيح الظلام.
و ايضا من الاسباب للحرب على ما يعرف اليوم بالحوزة ما لها من موقع مرموق في قلوب العامة، وللشأن الذي يصير اليه العلماء وما يتمتعون به من نفوذ وتاثير في اواسط العامة .عنيت مدرسة اهل البيت عليهم السلام، دون سواها.
7
ان دور من هم في سدة زعامة المؤسسة الدينية لهو عظيم الاثر والخطر فعلى مر العقود وتقادم الايام تعرضت حركة التشيع للتنكيل والاتهام والمضايقات التي اتخذت اشكالا وابعادا مختلفة وصلت الى حد المجازر والابادة وتقتيلا لعلمائها، نفيا وسجنا مع كل الوان الاضطهاد والقهر.
الا انه كان هناك دائما من يقود السفينة المحمدية في اصعب الانواء وينأى بها الى بر الامان، متحملا الظروف الصعبة والصروف القاهرة متاسين بالائمة عليهم السلام حيث كابدوا ماكابدوا وصبروا واستقاموا كما امروا، وعملوا لمرضاة الله وتبصرة الانام فاستشهدوا وجعلوا من ارواحهم ومهجهم مدادا لابقاء نور الله وهاجا، وفي سبيل ان تبقى كلمة لا اله الا الله هي العليا.
8
معقد العز
السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله واحد من اولئك العمالقة الافذاذ الذين طويت لهم الوسادة وتسنموا ذرى مدرسة اهل البيت في ظرف سياسي بالغ التعقيد، ومفصلي في مرحلة من ادق واخطر المراحل التي تمر بها الامة الاسلامية عموما، ويمر بها التشيع خصوصا، في منطقة قلقة ومضطربة، وتشبه من حيث الدقة والحساسية الى حد بعيد تلك الظروف والمراحل السابقة التي خاضها اعمدة واساطين مدرسة اهل البيت عليهم السلام بحكمتهم المستمدة والمستمرة لنهج البلاغة نهج الحق واستطاعوا من خلال ماحملوه من فكر نير وضوابط ارساها لهم سلف عظيم صالح ان يعبروا الى شطآن الامان.
ويشبه الظرف اليوم ما اعترى الامة الاسلامية والمسلمين يوما خطب جلل وخطير كاد ان يقضي على البقية الباقية، انذاك يوم اجتاح العالم الاسلامي المغول بقيادة هولاكو ، ذئب ضار ووحش كاسر ، يقضم ما يليه قضما فلا يبقى ولا يذر، يسيح في البلاد زارعا فيها الخراب فتحول يباب.
قيض الله سبحانه وتعالى له مروضا من قمم الرجال الا وهو الخاجة نصير الدين الطوسي.
نموذج ممن نتكلم عنهم، وواحد من خامتهم الرفيعة، كان له فضلا كبيرا على الاسلام بما صنع. فناهيك عن ترويض جموح المغول، استطاع ان يُدخل المغول في الاسلام، ويصبحوا جزء منه ويذوبوا فيه، ويرفدوه بدم جديد، وهذا خلافا لمجرى سنن التاريخ ووقائعه المشهودة، فإن مجرى العادة ان يتاثر الضعيف بالقوي، والمحتلة ارضه المغلوب على امره بالغزاة الفاتحين المنتصرين، وتحت تاثير الغلبة والقهر يفرضون عليهم ما يشاؤا، من ثقافة ودين وقيم، فتكون نهاية قيم وموتها وقيامة لاخرى بديلة، وخاصة مع اختلاف الدين وتضاد القيم وقلة من القواسم المشتركة، وقد حدث بالفعل في ظروف لا تتوفر لها نفس الشروط وهو ما جرى في العالم الاسلامي قديما، مصر والمغرب العربي كنموذج فاطميين وايوبيين ، وغيرها من نماذج لا حصر لها.
ويشغل اليوم اية الله العظمي السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الشريف سدة الزعامة الدينية يعمل بهدوء نبي، وتسديد امام، وحكمة العارف المستبصر، وينأى بطائفته وعموم المسلمين وغيرهم، الى واحة الامن والسلام ليكملوا مسيرة حياتهم بطمأنينة وهدوء، عاصما اياهم من محاذير واقدار كثيرة وخطيرة، واحدة منها تكفي لتمزيقهم شر ممزق، وهو المطلوب، بالرغم من خطورة وعظم التحدي، وخطورة المرحلة، وظرفها الصعب الشديد.
فان شخصا واحدا يواجه تخطيط امم بكامل اجهزتها واذرعها وامكاناتها الغزيرة، ومعها من يعضدها من المؤسسات الرديفة والبديلة، لها مطامعها واهدافها ، تتكرر فيه مشاهد ونماذج من الماضي السحيق.
بحر لجي متلاطم يمخر عبابه اليوم بسفينة اهل البيت عليهم السلام من هو اهل لذلك بكل تؤدة وانتباه لكل شاردة ووارد لكي لا تضيع المعالم وتذوب الشخصية الاسلامية المتميزة ، فلا ذوبان في التيار الحالي الجارف ولا اندفاع بعكسه يقصم الظهر ويفقدنا الدليل، فنخسر الدنيا والدين.
هو سبب اخر يضاف الى كم الاسباب التي تدلل على صحة العمل وصوابيته، وسلامة الطريق وصدق المعتقد.
8
وتستمر مؤسسة المرجعية وعلى هذا المنوال تمضي السفينة، مسيرة عمرها اكثر من الف عام، على نفس الخطى الثابة بالولاء لاهل البيت عليهم السلام كما لو كانوا بيننا وهم كذلك، لدليل على صدقيتهم، وان النجاح الدائم لا بد له من اسباب صحيحة سليمة، فصحة العامل من صحة العمل .
ما كان لنا امثال هؤلاء واولئك الاوابد من الرجال الذين يقل نظيرهم ، ويفتخر بهم وتتطمئن النفس بوجود امثالهم ، فهم المعتمد بعد الله سبحانه وتعالى. وعليهم المعول لسلامة الدين، وحفظ الاسلام والمسلمين، فلا خوف ولاغرابة فالمنهل العذب والمورد الخصب قد اهتدوا اليه وعرفونا طريقه.

ميتشغن شوال 1429

No comments:

Post a Comment